في إحدى الجلسات البرلمانية قبل حوالي عامين، صرخ رئيس البرلمان البروفسيور إبراهيم أحمد عمر بشكل هستيري، غضباً على تناول الصحف لأنشطة المجلس الوطني بشكل ناقد، قبل أن يحذر الصحفيين بصورة صريحة مما أسماها “غضبة الحليم” حينها بدأ الصحفيين البرلمانيين يفكرون في الكيفية التي سيواجههم بها رئيس البرلمان، وظن الكثير منهم أن الشيخ عمر سينبري في الدعاء عليهم إنفاذاً لغضبة الحليم التي حذَّر منها.
ولكن تسارعت الأحداث وأتت الوقائع بخلاف ما كان يتوقعه مندوبو الصحف في البرلمان، باختيار رئيس البرلمان طريق “المواجهة” من نوع خاص، وذلك في أعقاب تعيين عبد الماجد هارون مستشار له، والذي عمد بدوره إلى التضييق على الصحفيين من أجل فرض واقع خاص في تعامل المؤسسة التشريعية مع وسائل الإعلام، حسبما يراه الصحفيون.
لحظة الصفر:
وعقب سلسلة من الوقائع والمواقف، وصلت المؤسسة التشريعية لحظة الصفر وقررت بالأمس، منع كافة مناديب الصحف من الدخول إلى مباني البرلمان للقيام بواجب المهني ونقل الأنشطة التي تدور إلى الرأي العام في سابقة تعد الأولى من نوعها. الخطوة التي أثارت استهجان واستنكار واسع من الوسط الصحفي والإعلامي والنواب البرلمانيين وبعض الكيانات المدنية والسياسية، بوصف أن الإجراء مخالف للدستور والقانون واللوائح التي أجازها البرلمان نفسه.
وسارع الصحفيون البرلمانيون، بإصدار بيان يندد بالقرار الذي اتخذته إدارة البرلمان بحقهم، ولوحوا بالتعصيد لا سترداد حقهم في التغطية. وقالوا “نحن نعتبر المنع مخالفاً للقانون والدستور الذي أتاح حضور أنشطة البرلمان حتى للعامة، ورغم أن البرلمان مؤسسة تشريعية مناط بها الحفاظ على سيادة القانون والدستور إلا إنه وبهذه السابقة يكون أول من خرق وانتهك قوانين ولوائح وضعها بنفسه”، وأضاف بيان الصحفيين: “نؤكد بأننا سنتبع كافة الوسائل الممكنة والإجراءات القانونية لاسترداد حقنا القانوني والدستوري في دخول البرلمان وتغطية نشاطاته. واعتبر الصحفيون أن منعهم جاء نتيجة لرغبة البرلمان في حجب بعض القضايا من الخروج للعلن ويطلع عليها الرأي العام.
القشة التي قسمت ظهر البعير :
وسبق المنع الجماعي لمندوبي الصحف في البرلمان، إيقاف الصحفية هبة عبيد مندوبة صحيفة الانتباهة من تغطية النشاط البرلماني وممارسة ضغوطات على إدارة التحرير بصحيفتها باستبدالها مما دفعها – أي إدارة التحرير- للموافقة على طلب البرلمان، حسب معلومات تلقتها “الأخبار”. فقرار إيقاف الصحفية هبة رحج بيان سابق للصحفيين البرلمانيين الذين قاطعوا البرلمان ليومي الثلاثاء والأربعاء تضامناً معها – أن يكون سببه خبر صحفي نشرته هبة بصحيفتها حول تركيب شاشات بالقاعة الرئيسة للجلسات البرلمانية تبلغ قيتمها 9 مليارات جنيه.
كما سبق إيقاف “هيبة عبيد” وكاتب التقرير “مرتضى أحمد” عندما كان يعمل لصالح جريدة (الأهرام اليوم) على خلفية نشره خبراً يتعلق بغضب نائب رئيس البرلمان بدرية سليمان على تعيين نائب ثالث لرئيس البرلمان وجرت كثير من المحاولات لاستبداله بمندوب آخر إلا أن رفض الصحيفة الامتثال لضغوطات من “عبد الماجد هارون” حالت دون تنفيذ المخطط. كما جرت محاولة ثانية لإيقافه واستبداله عندما انتقل لجريدة “الأخبار” والتي رفضت بدورها الرضوخ لإملاءات “هارون”.
خطة ممنهجة :
قرار المنع الصادر بالأمس، والذي استثنى التلفزيون القومي والإذاعة السودانية ووكالة السودان للأنباء والمركز السوداني للخدمات الصحفية وقنوات “سودانية 24، الشروق” وتلفزيون الخرطوم، والذي لم تتضح حيثياته رغم البيان الصادر من إدارة الإعلام بالبرلمان، يعتبره مندوبي الصحف أنه لا يخرج عن خطة ممنهجة يقودها السيد عبد الماجد هارون لإسكات الصحفيين وضمان عدم إثارة مخالفات المؤسسة التشريعية وفضحها للرأي العام.
وفي السياق ندد رئيس كتلة التغيير أبو القاسم محمد برطم بقرار البرلمان القاضي بمنع الصحفيين من دخول البرلمان، وقال :”البرلمان الذي يفترض أن يحمي الحرية ويدافع عنها، هو أول من استباحها”، ورأى برطم أن البرلمان بخطوته يريد التغطية على أخطاء قائلاً :”منع الصحفيين يؤكد أن هناك خللاً يراد له أن يدفن”. وتساءل :”الصحافة الحرة هي صوت الشعب الصادق، وهي من يكشف الفساد بكل أنواعه فلماذا يخاف البرلمان من الصحافة؟”.
وتؤكد دوائر برلمانية، إن القرار صادر من مستشار رئيس البرلمان عبد الماجد هارون الذي عيَّنه إبراهيم أحمد عمر عن طريق التعاقد عقب إقالته من منصب وكيل وزارة الإعلام، بمخصصات وزير دولة “راتب شهري حوالي 11 ألف جنيه، وسيارة ومكتب بسكرتيرين)، الأمر الذي أثار حفيظة النواب وقتها، ويرى كثيرون إن هارون يريد رد الجميل لإبراهيم عمر لإخراس منتقديه.
توضيح مبهم :
إدارة الإعلام بالبرلمان التي رفضت الاستجابة لاتصالات الصحفيين لحظة طردهم من الاستقبال أصدرت بياناً لاحقاً أوضحت فيه ملابسات الوقائع من جابنها. حيث أعلنت خلاله أنها وضعت ضوابط جديدة للتعامل مع مناديب المؤسسات الإعلامية والصحفية “راعت فيها خصوصية عمل الإعلام والصحافة وطبيعة أعمال اللجان بالمجلس” مستندة إلى أن البرلمان في إجازة دورية تستمر حتى الثاني من أكتوبر المقبل.
وقالت إدارة الإعلام في بيانها، أنها ملتزمة بما ورد في المادة 1/34 من لائحة تنظيم أعمال المجلس الوطني بإتاحة جلسات البرلمان للصحفيين والإعلاميين والجمهور، وأشار البيان إلى أن لائحة الأعمال نصت على أن أعمال اللجان سرية وغير متاحة للإعلام إلا في الحالات التي تقررها إدارة المجلس، وأضاف البيان :”وبناءً عليه ستتواصل إدارة الإعلام مع كل وسائل الإعلام لتمكينهم من المعلومات المطلوبة والأخبار وستمكن المناديب من حضور كل الفعاليات التي يرى المجلس ضرورة مشاركة الإعلام فيها”.
وقال البيان “إن عدداً من الصحفيين المكلفين بتغطية أعمال المجلس الوطني نفذوا مقاطعة لأعمال البرلمان خلال يومي الثلاثاء والأربعاء 24 و25 يوليو الجاري، تضامناً مع زميلتهم من صحيفة (الانتباهة) التي قررت إدارة صحيفتها استبدالها بزميل آخر من نفس الصحيفة بعد تلقيها شكوى من هذا الطرف متعلقة بعدم التزاماتها المهنية في عرض أخبار المجلس بالصحيفة واقتناع الإدارة بالحيثيات التي تم عرضها”.
ولكن الصحفيون البرلمانيون فندوا في بيانهم، بيان إعلام البرلمان، والذي أصدره في الواقع السيد عبد الماجد هارون، وأوضحوا أنهم ظلوا يقومون بتغطية أعمال اللجان البرلمانية حتى وقت إجازة البرلمان حيث ينتظر تصريحات المسؤولين عقب أي اجتماع لجنة برلمانية. كما يجدر الإشارة إلى عدم وجود نص يكفل للبرلمان منع الصحفيين من الدخول.
وقال بيان الصحفيين نصاً:”نشير إلى أن بيان إدارة الإعلام بالبرلمان الذي استند فيه على قرار المنع بالمادة (34/1) بلائحة البرلمان التي تنص على أن جلسات البرلمان متاحة لوسائل الإعلام إلا في الحالات التي يرى فيها رئيس البرلمان غير ذلك، أو بطلب من رئيس الجمهورية بأن تكون الجلسات سرية، وأن اجتماعات اللجان سرية، نوضح أننا ظللنا على الدوام نغطي أنشطة البرلمان خلال رفع جلساته لاسيما اجتماعات اللجان التي يُصرح فيها رؤساء اللجان عقب انتهاء الاجتماعات”.
تفاعل كبير :
وتفاعل الوسط الصحفي ونشطاء الانترنت بشكل لافت مع حادثة حرمان الصحفيين، من دخول البرلمان، واتفق الجميع على أن الخطوة لا تمت للدسور والقانون بصلة، مبدين أسفهم لكون الإجراء صادر من المؤسسة المشرعة القوانيين والتي يفترض أن تكون الأحرص على حمايتها من الانتهاك.
واعتبر عضو سكرتارية شبكة الصحفيين السودانيين الصحفي حسن فاروق، إن ما حدث لمندوبي الصحف في البرلمان لا يخرج عن حملة التضييق العامة للنظام الحاكم على الحريات الصحفية، ولكنه يرى أن سلوك البرلمان خطيراً لكونه السابقة الأولى من نوعها في تاريخ البرلمانات السودانية إلى جانب أنه حمل تمييزاً واضحاً للمؤسسات الإعلامية، بالسماح للإعلام الرسمي وطرد الصحف مما يعكس رغبته في تكميم الأفواه ووقف تناول المخالفات.
وقال فاروق إن البرلمان الحالي هو برلمان ديكوري وبرلمان إشارة وتمرير وليس بالمؤسسة التشريعية الأولى كما يقولون، وأضاف “تناول الصحافة لأنشطته أعطاه حيوية، فلولا الأخبار التي ينقلها عنه الصحفيين لما سمع به أحد”. وتابع :”هذه الممارسات نحن ندينها ونرفضها لكنها تعكس جوانب إيجابية تؤكد أن الصحافة ماتزال بخير وتؤدي دورها رغم محاولات التضييق الكبيرة التي واجهتها”.
من جانبه، أبدى النائب المستقل مبارك النور رفضه القاطع لما وصفه بتعدي قيادة البرلمان السافر على الحريات الصحفية بمنع الصحفيين من الدخول، واعتبر أن القرار خاطئ مضموناً وتوقيتاً ومعيباً ومخالفاً لكافة الأعراف والقوانين والدستور وفيه عدم احترام للنواب الذين انتخبهم الشعب للدفاع عن الحقوق والحريات.
وتأسف لانتهاك البرلمان للحريات رغم أنه المسؤول عن حمايتها، وقال: “نحن نواب شعب ونرفض انتهاك حرية أي كان .. على البرلمان التراجع عن هذا القرار والسماح للصحافة للقيام بدورها وعدم التضييق عليها خاصة وأن الساحة تعج بالأزمات الاقتصادية والغلاء والموضوعات السياسية كقانون الانتخابات وغيرها.. ينبغي إتاحة المجال للصحافة الحرة”. وقال “سنقوم بكل الوسائل الممكنة لوقف انتهاك الحريات الصحفية والسياسية، .. البرلمان دوره توسيع الحريات وليس تضييقها وانتهاكها في وضح النهار .. أنه لأمر مؤسف ومعيب”.
ورأي النور أن الإعلام الرسمي كالإذاعة والتلفزيون لا يتعامل مع الأصوات المعارضة في داخل البرلمان وإنما يركز على الأصوات الموالية فقط، مما يعكس رغبة البرلمان في إسكات الصوت المعارض ومنه من القيام بدورها تجاه الغلاء والفساد. وقال :”يجب السماح للإعلام الحر بالتواجد داخل البرلمان حتى ننقل عبره نبض أهلها الذين يتكوون بنيران الغلاء وكثير من الأزمات الحارقة”.
فيما، رفض رئيس لجنة الإعلام في البرلمان الطيب مصطفى، الاستجابة لاتصالات هاتفية عديدة قامت بها (الأخبار) رغم إرسال رسائل نصية متعددة له بغرض التعرف على رأيه في منع الصحفيين من دخول مباني المجلس الوطني.
صحيفة الأخبار: مرتضى احمد