يمر عام على رحيله .. وماتزال بريق ابتسامته تكسو المكان، وحلاوة لسانه تعطر اﻻجواء، ومﻻمح وجهه تملأ الفراغات .
اختار لشخصيته مكانة، ورسم لنفسه خارطة، وعبد لدربه طريق، ووضع لعنوانه خط مرسوم، يصل بها الي قلوب الناس ببساطة وأريحية دون تكلف او كبير عناء.
حشد من القيم وكتاب مفتوح من السماحة والنبل لم تكتمل صفحاته عندنا اﻹ (يوم شكره) الذي قرأناه في عيون الجميع ودموع الرجال والنساء والشباب وحتى الأطفال تنهمر سيلآ تروي التراب. ترك كتابه مفتوحآ على مصرعيه ليستوعب كل حرف له قيمة، وكل كلمة لها معني، وكل جمله فيها إفادة ..
قيم وتسامح ووشائج تراءت أمام اعيننا يوم رحيل والدنا رحمه الله الحاج/ النور عبدالله عبتود، قبل عام وﻻنقول اﻻ مايرضي الله انا لله وانا اليه راجعون، وﻻحوﻻ وﻻقوة اﻻ بالله ..
مايزيد عن العام قبل رحيله وهو طريح الفراش، كان يرقد بإيمان شامخ وصبر جلد وقوة جامدة وعزيمة ﻻتلين، لا يرى في حالته إلا نعمة من نعم الله عليه، فكان يرى أن هناك فتوحات ربانية تتراءى أمامه ..
(الله يفتح عليكم) هذه .. كانت جملته المحببة التى يدعو لنا بها كل ما نسنده من مرقد اونطعمه طعام او نسقيه مشروب او نعطيه جرعة علاج.
ﻻيعرف للخصومة طريق وﻻ للعداوة اتجاه .. ينسحب بهدوء من مكان الضجيج .. يحكم بين الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، يقرب المفترقين ويصالح المتخاصمين بالود وسمح القول وجميل العبارة .. رحمه الله ظل رقمآ صعبآ لايمكن تجاوزه في قضايا اﻻسرة، يربط الوشائج ويحل العقد بكل سهولة ويسر .. خفوت صوته محير، وعلو صوته يعني الكثير الذي يجب تداركه بسرعة.
لم اتذكر قط أن والدنا رحمه الله قد عاقبنا بقسوة او تذمر من اخاطئنا المتكررة، لم نعرف (الجلد) ونحن شفع يفع، لكنه ربانا بـ(العين) وبنظرة واحدة منه نفهم مايريد وما ﻻيريد وننفذ اوامره المرسومة بحذافيرها بنظرته الثاقبة دون إن ينطقها باللسان .. حفاوته بضيوفه واقربائه وزملائنا واصدقائنا جعلتنا في حالة استعداد قصوى وترتيب دائم للقيام باللأزم في الزمان والمكان دون أن يرهق نفسه بـ(ياولد) ..
نوع فريد من اﻹلفة كان يحاط بها والدنا رحمه الله من اﻷهل والجيران واﻻصدقاء، وفي كثير من الأحايين يسألني اشخاص عن والدي بإللحاح، وأكاد اجزم انه ﻻتربطه بهم علاقة بحكم السن وبعد المسافة وكثير من الفوارق، لكنهم يداهمونني بموقف نبيل قام به والدنا تجاههم او تجاه مجموعة.
عصاميته تركت لنا رصيدآ وافرآ من التوكل على الله والجهد والعمل بـ(الضراع) من أجل الكسب الحلال الطيب الذي ﻻتمسه الشبهة ..
لم اشاهده قط على خلاف مع والدتنا (أطال الله عمرها) او حتى التظاهر امامنا باﻻختلاف .. في تجربة فريدة من احترام العشرة، وربما قصد منها تعليمنا كيف تكون حياة الشراكة المستمرة بمرور الانسان في هذه الفانية .
تعلم من الخلاوى والكتاب في ذاك الزمان تعاليم الدين والقرأن السمحة وتفتحت عيناه على الدنيا وهو مفطوم على ذكر القرأن والصلاة على النبي (ص) مع شيوخ بلدتنا الوادعة التي ترقد بين النيل والصحراء في حياة مليئة بالقسوة والبساطة والتوكل على الله .
يحفظ مدائح حاج الماحي عن ظهر قلب ويلجأ اليه الكثيرون لتفسير مفرداتها التي تمدح المصطفى (صلى الله عليه وسلم) وتعتبر المدائح الملاذ اﻵمن التي يلجأ اليها وقت الصفاء والوحدة .
(شرد) من البلد كحال أبناء جيله كسمة سائدة في ذاك الوقت، كمحاولة لبناء شخصيته التي تميزت بالعصامية، وذهب الى احدى نقاط مشروع الجزيرة وعمل حاملآ للمراسلات اﻻدارية على ظهر (حمار) كدابة في وقت كانت اﻻتصاﻻت والبرق معدومه .. اتجه بعدها الى الدفاع المدني بمشروع الجزيرة ليعمل عسكريآ على اطفاء الحرائق .. تحول بعدها للشرطة العامة.
ابتعث بذات المهنة الى جنوب السودان في مدن واو وتوريت وظل متنقلآ في فيافي الجنوب التي احببها واستقر به المقام في جوبا التي عاش فيها سنينآ عددا .. هذه المؤسسة اي -الشرطة- التي علمته النظام وترتيب حياته، كل شئ ولو بسيط يعمل له الف حساب وعنده له ترتيب معين قد ﻻننظر لها نحن ابناء الجيل الذي أتى في زمن (المحقة) لكنه ينظر اليها رحمه الله بعين اﻹعتبار.
عمل تاجرآ في جنوب السودان في مدينة جوبا منطقة (اطلع بره) لمدة ثلاثون عامآ بعد أن انهي عمله العسكري، وتملك المتاجر والبيوت وعشنا في تلك الفترة ونحن صغارآ رقد العيش وحسن الملبس والمظهر بين اقراننا الذين كان لهم ايضآ نصيب بما يأتي به من ملابس وهدايا تعم القرية والأقربين .. وبعد أن تزعزع اﻷمن في تلك الديار، اختار (البلد) منطقة (تنقسي الجزيرة) بالوﻻية الشمالية لتكون مقامه واستقراره .. فكانت الزراعة والتجارة المهن الحلال التي ربانا بها افضل تربية واحسن امتهانها ..
ربانا الوالد رحمه الله على تعاليم الدين السمحة فكان مؤمنآ أن الرزق الحلال هو من يسند صاحبه عند الشدائد وفي الدنيا واﻷخرة ويقيه من الحساب العسير يوم ﻻينفع مال وﻻبنون، فكانت من احدى وصاياه التي نحرص على تطبيقها (يا اوﻻدي ﻻتنظرون للمال السائب وﻻ لمن يمتلكون المال دون تعب .. ارتضوا بما يقسمه لكم الله لو قليل او كثير) هذه الوصية كانت نبراسآ أنار لنا بها الوالد رحمه الله الطريق ولفت نظرنا الى المال الحلال وابحرنا بها في عصامية الى طريق الرزق الحلال الطيب .. فقليل أن نجد والدنا رحمه الله يتضجر من المعيشة.
عاش حياة مليئة بالبساطة واليقين دون صخب، ورحل وهو يحمل ذخيرة من اﻷيمان والتقوى بهدوء كما عاش.
فيا أيتها الدموع كفى عنا .. ودعونا ندعو له بالرحمة والمغفرة وأن يسكنه في جنات الخلد مع الصديقين والشهداء ..
انا لله وانا اليه راجعون
وﻻحوﻻ وﻻقوة اﻻ بالله ..
ولدك الملكوم/ خالد
سودان برس