القتل جريمة كبرى، لكن مقتل فرد من منطقة الشرق الأوسط، لن يشعل حرباً بين مكونات دولة الخلافة العثمانية، هذا بعض ما علّمتنا الأنظمة!.
حتى لو كان ذاك القتيل صحافياً شهيراً، فإن قتله سيكون سانحة لتفاهمات بين أطرافٍ كنا نراها قد اندرجت في تحالفات متناقضة.
هذا الملف الذي تصدَّر نشرات الأخبار لأسبوعين سيُطوى باتفاق الجميع.. الآن تدحرج الخبر إلى الدرجة الثالثة في سلم الأهمية، لولا أن بعض القنوات التابعة لهذه الجهة أو تلك، لم تزل تتاجر به.
ثمة فانتازيا تحكم المشهد كله، بالنظر إلى الروايات التي تتحدث عن أصول القتيل، وعن انتمائه لدولته التي يحمل جنسيتها، وعن علاقته بالدولة التي يقيم فيها..
ثمة غموض ما، عند إبراز هذه الخلفية أو تلك، فالحدث يحمل من مؤشرات اللامعقول، ما يكفي لتحويل القصة إلى فيلم هوليوودي، خاصة إذا ما وضعنا في الاعتبار سيناريوهات التغطية المتضاربة لنهاية رجلٍ يُنظر إليه بعض الاسلامويين كعلماني غربي، وينظر إليه البعض في الغرب كـ ( بترودولاري) ذي ولاء للقُطرة والشماخ.
قروبات المتشابكين عبر تويتر والواتساب والفيسبوك، ووسائل إعلام مفضوحة الانتماء (زوَّدَتها حبتين)…هذه الحادثة ستدخل كنموذج لتقييم مبدأ الحياد والموضوعية في دنيا الإعلام… بعض القنوات الفضائية ولغت في الموضوع من منطلقات أيدلوجية سياسية. قناة بعينها عرفت بمهنيتها وحيادها إبان انطلاقها.. تلك القناة شكلت ظاهرة جديدة في الإعلام العربي وحظيت بالعديد من الدراسات الأكاديمية لكسرها طوق الإعلام الرسمي المحروس بنظرية السلطة… تلك القناة انحدرت ووصلت إلى درك سحيق من فقدان الاتجاه،، فمنذ أكثر من أسبوعين ظل هذا الخبر موضوعاً للنشرة كلها، وكأن هذا الأخ هو أول صحفي يتم اغتياله أو اختطافه!.
ولكن، مهما تكاثر الصراخ – علّمتنا الأنظمة – أن هذا الملف سيُطوى، مثلما طُوِيَّ ملف الحريري وتسرَّبَ إلى غياهب النسيان..
لكننا نخرج من هذا الحدث ببعض العِبر، إذ أكد الحدث أن الكلمة المكتوبة لم تزل تؤثر بشكل خارق على صانعي القرار،، يضاف إلى ذلك أن التعاطف مع القتيل المختفي، لم يخل من إدانته بجرد حساب مواقفه، وكيف أنه كان يتنقل من معسكر إلى آخر غير عابيء بأن الأيام قد تستدعيه لمثل هذا الموقف، فضلاً عن أنه كان يغرد كثيراً لصالح جماعة بعينها،، وهذا في حد ذاته أهدر حقه في الحصول على تضامن شفاف كان يمكن أن يحظى به من قطاع عريض..
علّمتنا الأنظمة، أن مثل هذا الملف سيتم طيه داخل الصفقات، ومع تراكم المبيعات،، و (الكَاش يُقلل النِقاش)!.
القتل خسارة كبيرة، لاشك في ذلك، لكن الخسارة الأكبر في نتائجه… من النتائج الماحِقة لهذا الحدث، أن المتلقي هو الضحية، في خضم تدافع الأطراف المتناقضة نحو التبرير أو التحوير.
لقد خسر المتلقي العربي بشكل خاص، وسائل إعلام بديل، كان يفترض أن تتناول الواقع بموضوعية يفتقدها الإعلام الرسمي.
وأعجب ما في هذا الحدث، أن جهات بعينها، تُقيم لأجله مناحة عظمى، كأن القتل أو الاختفاء القسري في شريعتهم يُعد إثماً وظلماً!..
هذا في حد ذاته يحرم القتيل من تضامنٍ كان يستحقه، لولا أن مجتمعاتنا محرومة بقدرٍ كبير، من ثقافة الأنسنة والحقوق.
سودان برس