أرسل لي الأخ الصديق البروفيسور حمد النيل محمد الحسن رئيس قسم اللغة العربية الأسبق بكلية الآداب جامعة الخرطوم رسالة قبل ظهر يوم الاثنين 25/10/2014م نعى فيها أستاذنا العلامة الأديب محمد الواثق يوسف مصطفى .. أسأل الله له الرحمة والمغفرة والعفو والرضوان وأن يكرمه سبحانه وتعالى في أعالي الجنان فهو سبحانه وتعالى ولي ذلك والقادر عليه.
الأستاذ محمد الواثق .. هكذا عرفناه ـ لأول دخولنا قسم اللغة العربية.. من العلماء الأفذاذ المتميزين.. الكبار .. له هيبة .. لايجامل .. يحرص أن تكون متقناً لعلمك .. دقيقاً في معلوماتك .. فصيحاً في قولك .. الطلاب يهابونه يظنون فيه قسوة .. وهو ليس كذلك .. إذا درست عليه وجلست إليه .. وجدته بحراً فياضاً زاخراً .. ينساب العلم انسياباً في حديثه … تلتقط منه الدرر .. يكره المزايدة ويكره أن يفتخر الإنسان بما ليس فيه .. لا يحب الادعاء..
قال لنا في أول محاضرة له : ” أنا لا أريد أن أُخرّج جيلاً من الببغاوات ، أرجو أن لا تقلدوني وأن يكون لكم نهجكم الخاص “.
دخلنا إلى كلية الآداب بجامعة الخرطوم في صدر الثمانينيات وتخرجنا فيها .. كنَّا ندرك أن جميع الذين التحقوا بالكلية معنا من المتميزين كانت المنافسة حادة .. كنا نرغب منذ البداية أن نكون أساتذة في الجامعة .. ذكر لي أحد الزملاء الكرام الذين درسوا قبلنا .. أنني إذا أردت أن أكون من طلاب الامتياز … مرتبة الشرف .. في اللغة العربية فلابد أن أحرص على الحصول على الدرجة القصوى (أ) (A) في المواد التي يدرسها الأستاذ محمد الواثق .. فهي مقياس التفوق .. وكان الأستاذ محمد الواثق يدرس مقرري : المفضليات … والعروض … والمفضليات قصائد مختارة من الشعر العربي القديم (130 قصيدة ) اختارها المفضل بن محمد الضبي .. لتدرس لأبناء الخليفة أبي جعفر المنصور ـ المهدي وأخيه ـ لأنه كان مؤدبهما . فكلها من عيون الشعر … وهي أقدم مجموعة في اختيار الشعر العربي تلتها الأصمعيات لأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي، وجمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي ومختارات شعراء العرب لابن الشجري.
ومن هذه العيون المفضليات يختار أستاذنا الواثق قصائد بعينها في غاية الجودة يدرسها لطلابه .. أما العروض فعلم موسيقي الشعر وأوزانه كما هو معروف .. وقد تفوق فيه أستاذنا على جميع أقرانه وطلابه .. في الجامعة نعتد بأقوال من سبقونا من الطلاب .. وكانوا يتهامسون أن عبد الله الطيب أستاذ الأساتيذ يحترم محمد الواثق منذ كان طالباً .. وكتب أستاذنا الحبر يوسف نور الدائم مقالاً عن محمد الواثق قال فيه إن عبدالله الطيب قال للواثق : ” الناس تأخذ من أسمائها .. ” محمد الواثق أبرز صفاته أنه كان واثقاً من علمه .. في تواضع .. وأدب جم .. وصوت .. يسمعه من أراد أخذ العلم من أهله .
دعوته ذات مرة ـ أيام كنت عميداً لكلية التربية بجامعة الجزيرة 1997م ـ للسفر معنا لليمن لتدريس طلاب ماجستير اللغة العربية بجامعة تعز لمدة أسبوعين .. وهي المرة الأولى التي أرافقه فيها منذ أيام الطلب في الجامعة .. كان يشعرني دائماً أننا زملاء .. وكنت أحرص أن أبادر لخدمته .. فلا أتمكن من ذلك إلا بصعوبة فهو بهمته العالية يبادر لخدمة الآخرين وخدمة نفسه ولا يترك ذلك إلا تحت إصرارنا .. نقول له أننا نستمتع بخدمتك ..فأنت الأب والأستاذ المتميز الذي يستحق الاحترام . والأستاذ الواثق ناقد حصيف .. أرى أن تمكنه من الشعر وأوزانه ومن علوم العربية أكسبه حسن الاختيار للقصائد الجياد لتدريسها لطلابه .. وانطبعت هذه القصائد في ذاكرتنا منها قصيدة ذي الأصبع العدواني التي مطلعها :
يَامَن لِقَلْبٍ شديــد الهم محزون أمسى تذكَّـر ريّا أُمَّ هارون
أمسى تذكرها من بعد ما شحطتو الدهر ذو غلظة حينا وذو لين
وفيها :
فإن يكن حبها أمسى لنا شجنا وأصبح الوأي منها لا يواتيني
فقد غنينا وشمل الدهر يجمعـنا أطيع ريا وريـا لا تعاصيني
ترمي الوشاة فلا تخطي مقاتلهم بصادق من صفاء الود مكنون
وفيها يخاطب بعض من عاداه من أهله :
إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها إن كان أغناك عني سوف بغنيني
إنـي أبيّ أبـيُّ ذو محافظـة وابــن أبيّ أبيّ من أبـييِّن
فما أجمل هذا الشعر وما أجمل الاختيار .
ومن أجمل ما درسنا عليه قصيدة الشنفرى الأزدي التائية المعروفة :
ألا أمُّ عمرو أجمعت فاستقلتوما ودعت جيرانها إذ تولت
وفيها كما قال لنا هو رحمه الله أجمل ما قيل في وصف المرأة العربية :
لقد أعجبتني لا سقوطاً قناعهاإذا ما مشـت ولا بذات تلفت
أميمة لا يخزى نثاها حليلهـاإذا ذكر النسـوان عفـت وجلت
تبيت بعيد النوم تهدي غبوقها لجارتهــا إذا الهديـة قلــت
كأن لها في الأرض نسياً تقصهعلى أمِّهـا وإن تكلمـك تبلـت
فدقت وجلت واسبكرّت وأُكملتفلو جُنَّ إنسـان من الحسن جُنّت
ومن القصائد الحسان التي درسناها عليه قصيدة المثقب العبدي :
أفاطم قبل بينك متعيني ومنعك ما سألت كان تبيني
وفيها قوله مخاطباً محبوبته بغير ما اعتاده الشعراء :
فلا تعدي مواعد كاذباتتمر بها رياح الصيف دوني
فإني لو تخالفني شمــالي خلافك ما وصلت بها يميني
إذا لقطعتها وقلت بينيكذاك اجتوي من يجـتويني
وقد اتيحت لي من بعد الدراسة في مرحلة الدكتوراة على أستاذ الأجيال إحسان عباس وهو من كبار النقاد المعاصرين وهو أستاذ أساتذتنا في جامعة الخرطوم إذ دَرَّس بها وبالكلية القديمة كلية غردون من 1951 ــ 1961م فأحسست العمق المشترك بينه وبين الأستاذ الواثق ، وقد زرت الدكتور إحسان عباس ( رحمه الله ) في العام 1990م بالجامعة الأردنية ، وسألني بعد أن عرف أني تخرجت في جامعة الخرطوم عن طلابه وبخاصة عن محمد الواثق ، وقال لي إنه يتواصل معي وأرسل لي ديوانه أم درمان تحتضر ، وأشاد بذكائه وأدبه ، وكان إحسان عباس رحمه الله تعالى في تلك الفترة مهتماً جداً بشعر أبي العلاء المعري وبقراءته قراءة نقدية فاحصة وبخاصة قصيدته التي مطلعها :
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمرلعل بالجزع أعوانا على السهر
وإن بخلت عن الأحياء كلهم فاسق المواطر حيا من بني مطر
وسعدت جداً بإشارة إحسان عباس لأستاذنا محمد الواثق لأنني كنت به معجباً غاية الإعجاب فأكد لي هذا صواب ظني فيه وفي علمه وهو ما تشهد به كل الأجيال .
ولابد أن أشير ولفائدة من يشتغلون بتدريس العربية في زماننا هذا إلى أن الأستاذ الواثق كان يهتم بالخلاصات النهائية التي تظهر على الطالب وتدل على الدارس وذلك بإجادة نطق الأصوات العربية وصحة بناء الجمل وحسن الإلقاء وأتذكر دائماً أن منهجه هذا متصل بقول زهير :
لسان الفتى نصف ونصف فؤادهفلم يبق إلا صورة اللحم والدم
فكاين من صامت لـك معجبزيادتــه أو نقصه في التكلم
وكانت طريقته مع طلاب الامتياز أن يستمع إلى قراءتهم من كتاب بعينه ويقوم بتصويبهم وكان يكره الأخطاء الفاحشة .. وقد يطرد أحد الطلاب إذا تكرر منه هذا ويطلب منه تجويد هذا الباب الذي يكثر فيه الخطأ ثم العودة من جديد إلى مجلسه .
والواثق لا يستطرد كثيراًولايخرج عن موضوعه الذي يدرسه، ولديه التفاتات في غاية الذكاء دالة إلى موضوعات جانبية لها صلة بالموضوع، أذكر أنه وهو يدرس قصيدة أبي ذؤيب الهذلي وفيها وصف الحمار الوحشي :
أمن المنون وريبها تتوجع والدهر ليس بمعتب من يجزع
أشار إلى أن وصف هذا الحيوان مفصل في كتاب حياة الحيوان الكبرى لكمال الدين الدميري، فكتبت هذا ، وبحثت في مكتبتي التجاني الماحي والشنقيطي وهما جزء من مكتبة جامعة الخرطوم عن الكتاب ووجدته ضمن مقتنياتهما ، فوجدته من أمتع الكتب ليس في وصف الحيوان فحسب وإنما في العلوم العربية والإسلامية والكتاب في ثلاثة أجزاء طبع من بعد طباعة جيدة وجعلته بعد عشرين عاماً من حديثه هذا ضمن مكتبتي وهو من أمتع الكتب وفيه فائدة للدارسين . ومثل هذا كثير في حديث الأستاذ الواثق ، ومن دلائل اتساع معرفته أننا في السنة الخامسة وهي مرتبة الشرف كنا في دفعتنا ثلاثة فقط ( البروفيسور حمد النيل محمد الحسن رئيس قسم اللغة العربية الأسبق ، والدكتور صديق مصطفى الريح الأستاذ بجامعة الخرطوم والمنتدب سابقاً للمملكة العربية السعودية وشخصي) وكانت العادة أن يدرس طلاب السنة الخامسة لغة سامية أخرى، مثل العبرية، وكان الدكتور عبد الله الطيب يومها في المغرب وهو الذي يدرس العبرية ، فاختار لنا الأستاذ الواثق اللغة الفارسية وهي ليست من الساميات ولكنها تشتمل على كثير من الألفاظ العربية، وطلب من الملحق الثقافي الإيراني وكان يومها أستاذاً جامعياً أن يدرسنا، ولما جاء الأستاذ فوجئنا أن الأستاذ الواثق يتحدث معه بالفارسية بطلاقة ولما سألناه، قال درستها منذ زمن بعيد ؛ ومثل هذا كثير عند أستاذنا الواثق .
هذه بعض أفضال أستاذنا محمد الواثق علينا ، وهو ضمن كوكبة من الأساتذة الأفاضل والعلماء الأجلاء الذين يدرسون اللغة العربية في جامعة الخرطوم ، بارك الله في الأحياء منهم ونفع بعلمهم ورحم الله الأموات وجعلهم في أعلى الجنان ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
*مدير معهد الخرطوم الدولي للغة العربية للناطقين بغيرها
سودان برس