على خلفية غياب الزعيم الليبي خليفة حفتر عن المسرح السياسي في بلاده، ظهرت رؤى وطروحات، تدعو لتبني خيارات (التغيير الإقليمي)، على طريقة حسن البنا، حتى لا يأتي خليفة حفتر آخر، من ذات المطبخ الذي تطبخ فيه سيناريوهات المنطقة، وفق (مخطط مرسوم).. هذه الرؤية القاصرة المتعجلة، تستهدف القيام بعمل استراتيجي، أهدافه، نواياه ومراميه، (نصرة الإسلام والمسلمين). وهذه الغاية، بلا شك، لايمكن أن يختلف عليها مسلم مع أي مسلم آخر، ولكن النوايا شيء، والتخطيط والتنفيذ شيء آخر! ويأتي الاختلاف مع أصحاب هذا الطرح، في منهج وكيفية التنفيذ بل و دواعي كل ذلك! يأتي الخلاف في عدم التفريق أو الفصل بين الاستراتيجي والتكتيكي.. ومايتصل بالأمة، ومايتصل بالدولة القطرية! وعدم وضع أي اعتبار للظرف الزماني أو معطيات الواقع شديد التعقيد!..ومن عجب، أنهم يعلمون، أنّ مثل هذه الأطروحات (التغيير الإقليمي) لايمكن أن يقوم بها أفراد، أو حى تنظيمات، دون أن يكون ذلك هو خيار الدولة!
والسودان في حالته الراهنة، غير مؤهل لتنفيذ أي أطروحة تعتمد خيارات (فك) و(تركيب) في المنطقة، سواء على صعيد الحكومات أو التيارات والتكوينات السياسية والأيدولوجية. وما سعى إليه السودان في هذا الصدد، بحماس مخلص وبصيرة ناقصة، ورشد مفقود، مطلع التسعينات، لايزال يسدد فواتيره الباهظة إلى اليوم. والأهم، أنّ السودان لايمكن أن يتبنى خيارات الأمة، بمعزل عن الأمة نفسها..!! ويستغرب المرء، كيف يريد هؤلاء أن يتحركوا في فضاء الفكرة الواسعة للأمة، متناسين، أو متغافلين، واقع الحدود القطرية، وحقيقة انكفاء الشعوب على أنفسها، وتباعد خطوط التلاقي بينها في مسألة (المصير المشترك)! هذه حقائق تم اختبارها في العراق وليبيا وغيرها، وأصحاب هذا الطرح يعلمون ذلك، بل إن حقائق الواقع تعدت ذلك إلى ماهو أبعد، حيث أصبحت كثير من الدول المؤثرة (في الأمة)، أدوات فاعلة في تحقيق التباعد والتباعض والتباغض وتقوية أسباب الانكفاء الداخلي لكل دولة! إذن، هذه الحقائق، التي تصنع واقعا مأزوما (على صعيد الأمة) لايمكن أن يقفز السودان من فوقها، أو يمد خطوط التواصل من تحتها، ثم يعيد الصياح الأيدولوجي الذي كلفه أثمانا باهظة في معركة بقاء ومصير، انتهت إلى تأزيم وتقسيم وتهشيم وتحطيم، يرزح الشعب تحت ركامها حالياً، رغم أنه لايزال يعيش آمالا في التنمية واستعادة العافية، فكيف تكون الدعوة لعودة سيناريو (نصر الأمة) الذي سبق تجريبه، و بمعزل عن الأمة المنقسمة نفسها؟!
لقد تبدلت الأحوال بمراحل بعيدة عن حال المسلمين في العصور الأولى التي يحتكم إليها أصحاب هذه الطروحات، بل لم تعد دولة حسن البنا التي طرح فكرتها عام ١٩٢٨م، ممكنة، ليس فقط بغياب الثنائية القطبية، ولكن لعوامل كثيرة وكثيفة متداخلة، وبعد 90 عاما من المحاولات الفاشلة، والتجريب البائس، بأشكال مختلفة، لايمكن تسويق هذا الشكل من التغيير. وكذلك لم تعد عودة الخلافة ممكنة، مهما علت مكانة تركيا اليوم، وعليه، لاسبيل لتبني خيارات الأمة على هذا النحو المنقوص، مهما كانت الدوافع صادقة ومخلصة ونبيلة!
إن رفض هذا السيناريو، لاينطلق من فكر انهزامي كما يحلو لأرباب الحماس النعت والاستنكار والاستهجان، بعواطف صادقة، جامحة، لكنها لاتعرف التفكر أو التدبر!
لقد طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه، أن يمنح (الكافرين) ثلث ثمار المدينة، ليفكوا حصارهم في غزوة الخندق، رغم أن الكافرين جاءوهم، و أحاطوا بهم، ولم يكن للمسلمين بد سوى أن يدافعوا عن أنفسهم ومدينتهم وممتلكاتهم، فهل كان طرحه صلى الله عليه وسلم (انهزاميا)؟! كلا، فهو أشجع الشجعان كما عرفته الغزوات نفسها، ولكنه أراد أن يترك لنا منهجا في التفكير وإعادة التفكير، وحسن المفاضلة في التدبير والتقدير. وذات المنهج أعمله إلى آخر حياته، ففي (الحديبية) منهج عظيم، جدير بالتدريس، والتمحيص، ولاداعي لتفصيله فهو معروف، إذا كان ذلك الهدي في العلاقة مع الكافرين، فإنّ الرؤى حول العلاقات الداخلية يفترض أن تكون أكثر استبصاراً، ومن هديه صلى الله عليه وسلم، وواقعنا الحالي يحتم مراعاة الحدود القطرية، وللشعوب أن تحدد خياراتها، ولايعني ذلك الانفصال الشعوري منهم، أو التباعد الوجداني عنهم، كلا، الحديث هنا عن (واقع سياسي قائم) تملي المعطيات فيه إملاءاتها، وتعلن الوقائع فيه احداثاتها، فلا يمكن إنكار هذا الواقع، وعدم الاعتراف به، بل والدعوة لتجاوزه إلى محض أفكار وأمنيات، مهما كان نبلها!
إنّ وضع الأهداف أمر سهل ميسور، لكن العبرة في اختيار الوسائل، وإمكانية التطبيق! وأهمية الاعتبار، باستصحاب عظات التجريب، ومن الخطأ والخطر، ألا يكون كل ذلك في الحسبان.
يتخذ أصحاب هذه الأطروحة، من الآيات والنصوص، مطايا جاهزة تحملهم لبلوغ غاياتهم النبيلة، وتتلخص النصوص في حضور الإسناد بـ (المعية) و(الاعتبار بقصص القرآن).. وكأنّ قصص القرآن والسنة قاصرة في أن تمنحهم خيارات تناسب كل ظرف، وقد سبقت الإشارة إلى واقعة طرح الرسول صلى الله عليه وسلم عرضاً للتفاوض مع الكافرين لمنحهم ثلث ثمار المدينة، بما يؤكد أنه ليس في الشرع ثمة حرج من التماس طرق المقايضة، والتهادن، سيما في حال الضعف، مثلما أرانا المعلم نفسه صلى الله عليه وسلم، درسا في التعامل في حال القوة (اذهبوا فأنتم الطلقاء).. ما نود التركيز عليه، هو أنّ التغيير على طريقة الرسالات، أمر يحتاج إلى صبر طويل جداً، وليس على هذه الطريقة المتعجلة، وكما نعلم فإنّ (الصبر)، و(استحضارالمعية) لازمتان لكل مسلم، في حال كونه فردا، أو في حال شغله العام مع الجماعة، فالتوكل، واستحضار المعية، لا يعني بأي حال الاندفاع الطائش، كما أنّ التغيير على طريقة الرسالات، لايتم دون تمحيص، وقد بدأ التمحيص واختبار الصبر، مع أول إنسان، أب البشرية، آدم عليه السلام، وكانت نتيجة الامتحان ((وعصى آدم ربه فغوى)).. وسيدنا نوح عليه السلام، وهو يعلم أن المعية معه ليل نهار، صبر 950 عاما، ولم يجد سوى الخيانة من داخل بيته، من الشريك المؤازر، والنصير الحميم (زوجته) لم يجد منها سوى الخيانة! وابنه، سنده وعضده، (ضراعه اليمين) لم يجد منه سوى التمرد والعصيان! وطوال 950 عاما، آمن معه قليلون، وأغرق الله الباقين.. وهكذا بقية القصص، ومن أشهر القصص في هذا الصدد، قصة سيدنا يونس عليه السلام، وقد كان امتحانه في الصبر، رغم أنه مؤيد بالمعية التي لا تفارقه ليلا أو نهارا، لكن (إحداث التغيير في الأمة) أو بناء أو إنتاج (دورة حضارية) لابد فيه من الصبر، وكانت النتيجة (وذو النون إذ ذهب مغاضبا).. (فالتقمه الحوت) (ولولا أنه كان من المسبحين للبس في بطنه إلى يوم يبعثون).. العظة المتكررة من كل قصة تؤكد أنّ (إحداث التغيير في الأمة) أو إنتاج (دورة حضارية جديدة) يحتاج إلى صبر طويل، والرسول صلى الله عليه وسلم، لاتفارقه المعية، وهو المؤيد والمنصور، يحبس دعوته سرا لسنوات! ثم (يجند) الرجال فرداً فرداً، وفي ذلك الأثناء يدعو الله أن ينصره بأحد أقوى رجلين يومئذ (الأخذ بالأسباب) يتعرض صلى الله عليه وسلم للضرب والسب والسفهاء والحصار والقتال.. يترك دياره بأمر من الله، و يهاجر، يختفي في غار في الصحراء عن أعين القوى العظمى وهي تطارده.. يعرف أنه مؤيد ومنصور، لكنه أراد من كل ذلك، أن يمنحنا منهجاً في العمل والتفكير، وليؤكد لنا عملياً أن إنتاج دورة حضارية، أمر طويل وشاق.. وفي سياق صنع الخالق، علينا أن نتعظ من العظة الكبرى في خلق الله سبحانه وتعالى للسماوات والأرض، وهو سبحانه، إنما أمره إذا أراد شيئا، أن يقول له (كن/فيكون).. كان يمكن أن يخلقهن في جزء من الثانية، لكنه خلقهن في ستة أيام.. ولا ندري مدة اليوم وقتها..! لكن المهم والأهم، هو الاعتبار.. وفي سياق التجريب الحديث، يقيني أن اعترافات شيخ حسن الترابي عليه رحمة الله، التي أرادها في آخر حياته شهادة للتاريخ، أدرك وجوبها، لأنه تسرع في إحداث التغيير، لم يكن أمامه سوى أن يعترف لأنه يتأسى بالوحي وسنن السابقين.. كذلك، أكاد أجزم، أن فكرته في (المنظومة الخالفة) أتت بعد اعتبار، من أن طائفة محدودة، مهما كان تأهيلها (الحركة الإسلامية) لايمكن أن تقوم مقام الأمة، وأن الصحيح، الصبر، ثم الصبر، ثمّ الصبر، حتى تكتمل شروط النهوض الذي تسعى إليه الأمة. وإن كان ثمّة إشارة عجلى في تحديد الأولويات لتحقيق النهوض في عصرنا الحالي، فإن (العلم) يحتل قائمة الأولويات (أولاً وثانياً وثالثاً وعاشراً..) يومها، لاتخف على أمة متفوقة، تمتلك أدوات التقنية والمعرفة! لأنها ببساطة ــ تلقائياً ــ ستحتل الصدارة في كافة المجالات.
Mohkhair765@hotmail.com