إلى روح مارثا تيلاهون بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، مع فيض حبي
كانت قد مضت أسابيع قبل أن تلاحظ مارثا غياب جارها في السكن، فسيارته غير موجودة وهو لم يعد يخرج كعادته في الأمسيات مع أطفاله يراقبهم وهم يلعبون في الساحة المقابلة لبيته، فقررت أن تسأل زوجته الواقفة عند مدخل البيت، لكن لم يكن عندها جواب، فقط العبرة والدموع، دموع غزيرة كأنها كانت تنتظر هذا السؤال لتنفجر، مارثا التي لم تستوعب الأمر، وجدت نفسها تمسك بيد جارتها تسحبها إلى داخل المنزل، دخلتا بينما كان بكاء الجارة الصامت يتحول إلى نحيب مسموع.
لم تتعرف مارثا أول الأمر على صاحب الجسد النحيل الممدد على السرير، إلى أن قالت الزوجة:
-مريض منذ ثلاثة أسابيع، ولا يأكل.
مسحت مارثا بيدها على جبينه وهي تسأله:
-مالك يا ولدي.
بصوت واهن بالكاد يمكن سماعه اجابها أنه مصاب بالسرطان.
-أنا أيضًا مصابة بالسرطان.
قالت ذلك بثبات مدهش وهي تخرج من حقيبتها الاستمارة العلاجية المخصصة للمرضى الذين يتلقون العلاج الكيميائي، كانت الاستمارة الشبه مهترئة، ممتلئة حتى النصف بعلامات (صح) وملاحظات الطبيب المعالج. كانت هذه هي المرة الأولى التي يعرف فيها الزوجين أن جارتهم مارثا هي الأخرى مصابة بالسرطان، وأنها تباشر العلاج منذ ثلاثة أشهر.
ولأول مرة كان الرجل الطريح الفراش منذ ثلاثة أسابيع ينهض من سريره ويجلس وهو يجيل النظر بين مارثا ذات الستين عامًا ونيف بجسدها الفتي، وبين استمارة العلاج خاصتها، الاستمارة التي يعرفها جيدًا، فقد صرفت له ليتابع بها علاجه الكيميائي، لم يكن قادرًا على النطق، مأخوذًا كلية برؤيته مارثا في كامل نشاطها، لكنها تصر على أنها مصابة مثله بالسرطان. أخيرًا نطق:
-لكن كيف ذلك، أنت لم تنقطعي عن عملك، ولم تتأخري دقيقة عن موعد خروجك الصباحي، كيف يمكن أن يحدث ذلك؟
نظرت إلى عينيه بتمعن وقالت:
-لأن ذلك ما يجب أن يحدث، لدي ابنة صغيرة بالمدرسة من سيرعاها؟ لدي عملي الذي يجب أن أقوم به، وثلاث فتيات يعملن عندي، ما الذي سيحل بنا لو توقفت أنا عن العمل؟
اطرقت قليلًا قبل أن ترفع راسها وتكمل:
-وأنت، أنت تحديدًا لا يحق لك أن تستسلم هكذا، فلديك أطفال من سيعولهم.
وهي تختم ردها للرجل كانت نبرتها قد تحولت كليًا من التعاطف، إلى نبرة لوم واضحة.
غادرت بعد أن وعدته أنها ستعد الطعام ليتناولوا عشائهم الليلة معًا. مع فراغهم من وجبة العشاء التي كانت أول طعام يأكله جارها بعد أن سيطرت عليه فكرة المرض، كانا قد اتفقا هو ومارثا على الذهاب سوية لتلقي جرعات العلاج الكيميائي. ولم يكن قد مر أسبوع على رفقتهم كمرضى سرطان يتلقيان العلاج معًا، كانت قد اقنعته بأنه قادر على العمل مثلها تمامًا، وعليه أن لا يترك أيًا من عاداته، كانت تقول ذلك بحزم غير قابل للنقاش:
-ستعود للعمل، غدًا ستذهب للمكتب وتقول لرئيسك في العمل أنك تريد الاحتفاظ بوظيفتك، وتستعيد سيارتك، وستخرج صباحًا في أيام العطلات إلى كشك الجرائد قرب المحطة لتشتري صحفك التي أعتدت أن تشتريها، وستخرج مساء بكرسيك وتجلس لتنعم بمشهد الأولاد وهم يلعبون، أنت تحتاج لكل ذلك، فقط في يوم الجرعة يمكنك أن تعود للمنزل لتقضي بقية اليوم في السرير.
-ولكن أنت لا تفعلين ذلك، تصرين دائمًا على الذهاب لمكان العمل بعد جرعة العلاج؟
-أنت تستطيع أن تأخذ إجازة عن العمل، أما أنا فلا.
كانت مارثا تيلاهون بنت قومية الأرومو قد قدمت إلى السودان وهي في عمر الحادية عشر، حكت لي رحلة الهروب التي امتدت أيامًا لتقطع الطريق من اثيوبيا إلى السودان، كانوا يأكلون من المزارع المنتشرة بشكل متباعد على الطريق، يقضون النهار مختبئين من دوريات التفتيش، أما الليل فكان لطي أكبر مسافة من الطريق متحاشين نقاط التفتيش بين البلدين، أخيرًا استقرت في الخرطوم، لكن معاناتها لم تنته بنهاية رحلة الهرب من حياة الفقر في إثيوبيا، ففي بلدها الجديد السودان كانت على موعد مع صنوف أخرى من المعاناة، لم تترك نوعًا من الأعمال الشاقة إلا واخذت نصيبها منه مضاعفًا، لكن حين التقيتها أول مرة كانت قد امتلكت كافتيريا صغيرة في ساحة المركز الثقافي الألماني بالخرطوم (غوته). وعلى مدى سنوات منحت مارثا ذلك المكان روحًا مختلفة، صار معهد غوته بوجودها مكانًا أليفًا بشكل لا يُصدق، كان ببساطة كعبة للفنانين التشكيليين والشعراء والكتاب والصحفيين وجميع أطياف الوسط الثقافي في الخرطوم، وحتى بعد أن اكتشفت اصابتها بسرطان الجلد، كانت تُصر بعد تلقيها جرعات العلاج، تُصر على العودة إلى العمل لتعاون البنات اللائي كُن يعملن معها، مدفوعة بدوار العلاج الكيميائي كانت تتجول في باحة المعهد لتحمل أطباق الطعام والساندويتشات والشاي والقهوة. يرغمها الدوار والإعياء على الجلوس في المقعد المجاور، لدقيقة أو اثنين قبل أن تقوم وهي تبتسم لك حاملة اطباقها وعائدة، أحيانًا في نوبات إعيائها الشديد كانت تضطر إلى أن تتكئ عليك، بحسب درجة الإلفة بينكما، لكنها مع ذلك كانت تعتذر، نحن الذين كنا نعرف بأمر مرضها لم نكن نسمح لها بحمل الطلبات إلى حيث نجلس، كنا نأخذ طلباتنا دون أن نكلفها عناء الخروج من الكافتيريا، كانت تجلس بالساعات لتواسي البنت التي اغضبها صديقها، تمنح كامل عطفها للبؤساء الذين هجرهم من يحبون، الأحباء الذين تفرقوا عن بعضهم، كانت تعالج بخبرة طبيب لا مثيل له جراح واللآم رواد معهد غوته.
كانت مارثا ممتلئة بإيمان مسيحي خالص، الهمها يقينًا أنه ما من مرض يقتل الإنسان، كانت تقول أنها لن تموت بالسرطان، اصيبت بجرح في راسها سبب التهابًا منعها من مواصلة العلاج الكيميائي، وفي الوقت الذي شفي فيه من السرطان جارها الذي سبق وأن منحته الأمل في الشفاء، كان قد انطفأ بريق عينيها لتنهي معاناتها من الحياة.
تشخيص الطبيب المتابع لحالة مارثا كان واضحًا، سبب الوفاة هو الالتهاب الذي تسبب فيه الجرح، كان قد وصل إلى منطقة حساسة في الرأس.
لم يكن السرطان سببًا في وفاتها، مارثا نفسها قالت ذلك:
-لن أموت بسبب هذا المرض. ابوبكر عبد الرازق