أقسم لك إن الفتاة التي تعرفت عليها طوال العامين والتسعة أيام الفائتة لم تكن أنا، وإنما أنا في درجة الغليان، لتتذكرني أكثر أنا جرة الماء الصغيرة الموضوعة على تيار الهواء البارد والتي ارتشفت منها روحك القديمة مرارا منذ آلاف السنوات ، لا أذكر هيئة الجسد الذي كنت عليه وقتها ، لكن بعد الحلول الثاني أذِن الوقت بمصادفة ثانية، كنتُ في درجة الغليان، وجهي الرائق تحول إلى فقاقيع ملتهبة وأبخرة متصاعدة ، وملمسي المحفوف بغلالات الندى الملتف قطعة جمر، وطعمي الذي يطفىء الظمأ حمم بركانية لاتهدأ٠
ربما كان السبب في غلياني طوال العامين والأبام التسعة أني قاومت منفردة أعنف تسونامي يمكن أن بواجهه بشري على سطح الكوكب حاولت المقاومة تشبثت في طريق انجرافي العاصف بكل شيء جذوع الأشجار الضخمة وجذور أشجار المسكيت العجوز وثوب أمي الملتف على خاصرة صخرة عنيدة وألسنة العشب اللدنة وباللاشيء وبالصبر الجميل حتى سمعت دوي ارتطامي المفجع بقاع مصب السيل ، وكم هالني أثر الصدمة التقطت على عجل من فم لقائنا الأول لفافة أخيرة (أنا الآن بعرف الممكن ببقى شنو والماببقى شنو) تسرب دخانها إلى رئتي فتضخمت رغبة الإفلات َوتصاعد صهيل الخيول الجامحة ، الآن فقط أتفهم كيف أتى الروائي بقعقعة سنابك اللنبي إلى قاعة المحلفين، ثم انهالت على رأسي فجأة مخلفات سوداء لزجة وأنا عالقة في مصب السيل اللعين ، في ذلك المنحدر الضيق المظلم الذي تتناوب عليه الوحشة وموجات البرد القارس، ثم أخذ عقلي في الاستسلام للمسغبة وسوء المنقلب وبدأ في الانطفاء التدريجي إنها أولى مراحل الاغماء وآخر مراحل الهذيان فأخذت أردد بنشيج متقطع قانون إقليدس (الخطان المتوازيان لايلتقيان أبدا إذا ظلت المسافة بينهما ثابتة)، ورفعتُ صوتي المتهدج رويدا رويدا حتى أرتقى إلى عواء مؤلم أردد ماقاله إقليدس فيرد الصدى وتتضخم في عقلي فكرة الافلات ثانية ، سبحت مع التيار هذة المرة (لابأس) ، نظرت إلى نفسي فإذا بي كتلة سوداء لزجة بطيئة الحركة ولكنها تقاوم (لابأس) ، عاد أثر المخدر إلى دمي وجرس كلماتك يرن في أذني حرفا حرفا، كلماتك التي أحكمت وثاقي وأنت تنثرها كصائد فراشات متمرس (لا بأس) ، إختلط الدمع بمياه السيل الجارفة ومخلفاته، الآن أبكي بحرية أكثر دون أن أخجل من نفسي فكل ما حولي سائل ولا أحد يستطيع أن بتبين الفرق بين ماء السيل والدمع واللعاب سواي،( لا بأس) من بعض الطعم المالح في الحياة مادام بيني وبيني، تركت نفسي للتيار ترفعني موجة وتخفضني أخرى قد أرسو على النجاة أو الغرق، هكذا كنت أفكر قبل ارتطامي بالصخرة الحادة التي فجرت قرار القطيعة والذي أثبتت أشهره السته صدق ماذهب إليه درويش (وسخرت من هوسي بتنظيف الهواء لأجلها ٠)٠
(لا بأس) هكذا أنزلق أكثر من كل أغلال اللغة التي أبقتني في الأسر يادروبش، والآن أمضي في تمزيق القيود الناعمة وفي التعافي من نقص المناعة العاطفية المكتسبة، الآن أشاطرك السخرية وتبادلني إياها ونقهقه معا من حماقة (تعطير الهواء برذاذ ماء الورد والليمون) لأجلهم، ثم ألتفت إليك بغتةً لأتبين أختلافي عنك ، وأنت القائل (لاتستحق قصيدة حتى ولو مسروقة) ثم تنقض غزلك ( وكتبت كي أنسى إهانتها قصيدة
هذي القصيدة) ، أما أنا ٠٠
( ما ابتعدت خطاي تنكرا
لكن ليتسع المدى
حتى أراك)٠
والرؤيا تحت تأثير المخدر قد خبرتها يادرويش وخبرتك فهي،
(ترميم الجهة التي كسرتها حوافز الخيل
في حملة عسكرية
هو المرض المتقطع
الذي لا يُعدي ولا يميت
حتى لو اتخذ شكل الوباء الجمعي) ٠
أما الرؤيا بدون مخدر (فهي جمرة في اللغة)٠ ومددت يدي المرتجفة بفعل إعياء الرحلة لتتشبث أظافري بحواف صخرة (توهطت) عند الحافة وكونت لوحدها فاصلا جغرافيا بين المصب الآسن واليابسة الرملية ، جلست بصعوبة ووجهي نحو المصب وظهري لليابسة، جلست بإحكام هذة المرة وتضخمت في رئتي رغبةُ الافلات المضاد ، وأنا أراقب الطمي الأسود واللعاب يتقطر من جسدي وأفض اشتباك الدمع والماء وأهش عن رأسي الفراشات الصفراء لدرويش وروضة ، ولمعت أنت في ذهني فكرة تمضي نحو النصوع أكثر فأكثر بعد أن نقتها التجربة المرةُ من شوائب العاطفة، ربما أتعرف عليك في حلولك الثالث، لما لا مادمت لن تجدني في الجرة ولا الغليان ٠