أهدف مجدداً، إلى تأكيد أن كتاب سامويل هنتنغتون الذي نال به الشهرة (صدام الحضارات)، قائم على نظريات، بينما سبقت صدور كتابه بنحو عقدين في الاصطدام بالحضارة الغربية، عندما ذهبت إلى بريطانيا للدراسة، وكنت عندما ابتعثوني اليها احسب انني فزت بليلة القدر، ثم عشت التجربة وأصبت بصدمات كثيرة.
كان أهم إنجاز لي بعد انتقالي للعيش في غرفة خاصة، مع أسرة إنجليزية في منطقة تافنيل بارك التابعة لمجلس كامدن تاون، طلاق الوجبات المريبة، وإعداد الفول والعدس بكميات تجارية، ووجدت المواد الخام لتلكما الأكلتين في متجر باكستاني، وأعددت في غضون ساعة واحدة (حلّتين/ طنجرتين) منهما، ووضعتهما في الفريزر (الجزء الخارجي من الشباك)، واستمتعت بأكل الصنفين أياماً متتالية، والسر في ذلك أنني أجيد طبخ الفول والعدس، ودرست وصفات وطرق إعدادهما جيداً قبل وصولي إلى لندن.
ولفائدة الجميع سأشرح طريقة إعداد الفول (سبق لي شرحها في مقال قديم، ولكن لا بأس من الإعادة): تنقع حبوبه في الماء العادي لنحو 12 ساعة، ثم تصفي ذلك الماء، وتكون حبات الفول وقتها قد انتفخت لأن قولونها يهيج عند البقاء في الماء طويلاً، ثم تضيف اليه ماء نظيفاً وتضعه على النار لما بين 40 دقيقة أو ساعة كاملة و.. بالهناء والشفاء. ولكن وضعه على صحن لأكله يتطلب مهارات عالية، فلابد من وضع بعض الملح والكمون (نسميه في السودان الشمار) والزيت و… خلاص. ووضع بعض العدس في الفول وهو يغلي فيأتي لونه فاتحاً، وإضافة بضع تمرات للفول وهو يغلي يعطيه مذاقاً جميلاً ويجعل عصارة (ماء) الفول متماسكة، علماً بأنها عنصر مهم في مرحلة الأكل، لأنه ينبغي غرف الفول مع بعض الماء، أما العدس فيحتاج إعداده لمهارات عالية جداً: قبل طبخه تغسله من التراب والشوائب وتتركه في الماء ساعات قلائل، ثم تضعه في حلة/ قدر/ طنجرة على النار مع كمية طيبة من الماء، وترمي فيه بصلة واحدة غير مقطعة. بقشر أو من دون قشر، ما تفرقش، وقبل مرحلة استوائه بقليل تضيف اليه بعض الفلفل والكمون ثم (تتكل على الله)، بس حلاوة العدس في (قدحة الثوم) وهي الثوم المهروس الذي يترك على قليل من الزيت المقلي نحو نصف دقيقة ثم يتم صبه فوق العدس، وبعدها تنعم بوجبة لا نظير لها.
ثم جاءني الفرج الكبير، فقد نجح زميلي وصديقي مروان حامد الرشيد في العثور علي، وكان وقتها يحضر الدكتوراة في الأدب الإفريقي في جامعة لانكستر، وقادني إلى بيت شقيقه المقداد في منطقة وست هام، فصرت أرابط في بيت المقداد طوال العطل الأسبوعية مستمتعاً بالأكلات السودانية: بامية ورجلة (يسميها أهل الخليج بربير) وملوخية وطعمية، وكانت زوجته تجيد إعداد سلطة الباذنجان (الأسود)، وذات يوم قالت زوجة المقداد إنها مرهقة وطلبت مني أن أشتري لها الخضراوات من محل قريب، وأعطتني قائمة مكتوبة بالعربية: طماطم وبصل وخس وخيار وجزر وبامية وباذنجان، فسألتها عن اسم الباذنجان بالإنجليزية لأنني لم أكن أعرفه بتلك اللغة فقالت اسمه (ذِس) this وتعني (هذا)، وشرحت لي كيف أنها عندما لا تعرف اسم شيء معروض في بقالة تشير إليه وتقول إنها تريد (ذِس/هذا)، فقررت أنه لا يليق بشخص مسلح ببكالوريوس في اللغة الإنجليزية أن يتعامل بلغة (ذس)، وفتحت قاموس المورد واكتشفت أن الباذنجان اسمه أوبرجين aubergine وذهبت إلى بائع الخضراوات وطلبت أوبرجين، فصاح: وات؟ هنا لجأت إلى (ذس) فقال لي: تقصد الـ(إق بلانت eggplant) وعرفت أن أوبرجين (كلمة كبيرة) حتى على البريطانيين، وعندما رغبت في شراء البامية قلت له إنني أريد (أوكرا okra) فضحك وقال نحن نسميها أصابع السيدات lady’s fingers، وهكذا تأكد لي أن البريطانيين علمونا لغة إنجليزية غير تلك التي يتكلمونها، ولك ان تتخيل مقدار سعادتي عندما اكتشفت ان إنجليزية المدارس التي تعلمتها تعتبر راقية مقارنة بإنجليزية أهل لندن، فقد قيل لي ولغيري من أبناء وبنات المستعمرات البريطانية السابقة اننا نتكلم إنجليزية الملكة Queen’s English.
مواقع الكترونية