منذ الاستقلال تعاقبت عدة حكومات على حكم البلاد ، غير انها جمعيا فشلت في احداث التنمية . ولعل هذا الفشل يرجع الى اسباب كثيرة ومتداخلة لا يسع المجال لذكرها جميعا مثل الفساد الاداري والمالي ، عدم الاستقرار السياسي والامني واخيرا ترهل الخدمة المدنية ، وهو ما سنركز عليه في هذا المقال .حيث سنتحدث عن كيفية تسببه في غياب التنمية. كما سنتحدث عن الفشل المتوقع للحكومة الحالية اذا لم يحدث اصلاح جاد للخدمة المدنية.
اعتمد تمويل الحكومات عبر التاريخ على ما تجمعه من المواطنين بمسمياته المختلفة مثل الضرائب والجمارك والرسوم الحكومية، وعندما لا تكفي هذه المصادر تلجا للقروض والمنح غير ان القروض والمنح يعاب عليهما التكلفة السياسية وعدم توفرهما دائما. وكثيرا ما تركز الحكومات على كيفية زيادة الايرادات مع اهمال الشق الاخر من المعادلة الذي لا يقل اهمية وهو كيفية انفاق هذه الاموال لادارة الدولة و احداث التنمية. وذلك من خلال خلق ارضية مناسبة للانتاج ليقوم المجتمع بالعمل. وعادة ما يتم هذا من خلال التركيز على التعليم والصحة والبنية التحتية كما توجد عوامل اخرى لا تقل اهمية مثل الامن واحترام القانون.
لكي تستطيع الحكومات الصرف على التعليم والصحة والبنية التحتية لابد من ان يكون هناك فائض كافي بعد دفع المصروفات الادارية للدولة والتي عادة ما تكون المرتبات على راسها. على سبيل المثال اذا كان دخل الحكومة مائة الف جنيه فيجب ان تصرف على المرتبات ربع هذا المبلغ بينما يذهب الباقي للتنمية، غير ان هذا لم يحدث في السودان حيث ان الحكومات المتعاقبة كانت تصرف معظم دخلها على المصاريف الادارية بينما يكون هناك فائض بسيط يصرف على التنمية ، لذلك كانت مشاريع التنمية قليلة ومتباعدة حتى صار شق طريق او بناء جسر وفي هذه الايام ترميم الطرق القائمة اصلا حدثا مهما يحضره كبار المسؤولين وفي بعض الاحيان راس الدولة!! ولعل السؤال يكون لماذا تذهب معظم الاموال للصرف الاداري بدلا من التنمية؟
حسب تقديري يرجع هذا الامر الى المنافسة السياسية غير الناضجة بين الاحزاب السودانية المختلفة ، كما يرجع ايضا الى شيوع القبلية والمجاملة الاجتماعية على حساب القرار الاداري السليم.
اتسم السودان منذ استقلاله بتاريخ سياسي معقد نسبيا اذا قورن بدول الجوار ، ورغم ان الطبقة السياسية ترى ان هذا التاريخ المعقد نتيجة طبيعية لمحاولة تطبيق الديموقراطية الا انه كان ذا اثر بالغ السلبية على الخدمة المدنية ، حيث صارت الاحزاب تقوم بتعيين منتسبيها ايام ( النضال ) في مؤسسات الدولة المختلفة بغض النظر عن الحوجة الفعلية لهم من اجل كسب ولاءهم ، ففي بلد فقير مثل السودان وايضا لطبيعة المشتغلين بالسياسة فيه ونظرتهم لها كمصدر دخل شريف وغير شريف تكون الوظيفة الحكومية وما يتبعها من سلطة وامتيازات غنيمة لا يستهان بها. لذلك سرعان ما تمتلئ المكاتب الحكومية باتباع هذه الاحزاب ولعل ما يعرف بالتمكين ايام حكم الاسلاميين خير مثال على ذلك. بالطبع عندما يتكمن حزب او جهة منافسة من استلام السلطة تقوم بعزل منسوبي النظام القديم وجلب منسوبيها مثلما حدث مؤخرا فيما عرف بازالة التمكين. ولا حاجة للقول ان هذا الامر يؤدي الى عدم استقرار الخدمة المدنية وبالتالي استحالة تنفيذ السياسات بعيدة المدى الضرورية للتنمية.
البعد الاخر في ترهل الخدمة المدنية هو التركيبة الاجتماعية الممتدة للمجتمع السوداني ، وشيوع القبلية في التفكير. نتيجة لذلك ما ان يتم تعيين اي سوداني في منصب مهم ( الا قليل ) يقوم وتحت الضغط الاجتماعي وايضا المصلحة بتعيين افراد مجتمعه وقبيلته في الوزارة او الجهة التي استلمها ايضا بغض النظر عن الحوجة لهم. فيحدث الترهل الاداري.
لعل الاسباب السابقة هي اهم اسباب حدوث الترهل الاداري ، لكن كيف يؤدي الترهل الاداري الى اضعاف التنمية ؟
اول الاسباب واكثرها وضوحا هو صرف الاموال المخصصة للتنمية على الصرف الاداري وهو ما تحدثنا عنه في بداية هذا المقال غير ان هناك سببين اخرين لا يقلان اهمية وهما: تدني قدرة الدولة على استقطاب الكفاءات في الخدمة المدنية وايضا ضعف الانتاجية وانتشار الاتكالية.
لكي تكون الدولة قادرة على المنافسة في سوق العمل لابد لها من عرض اجور مغرية للعاملين لديها خصوصا في المناصب الحساسة وهذا ما يصعب حدوثه بسبب الاعداد الكبيرة من العاملين حيث تضطر الدولة لتتقدم اجور متدنية نسبة لانخفاض ايراداتها مقارنة بالعدد الكبير لهم، فتكون نتيجة هذا الانخفاض في الاجور عزوف معظم المؤهلين عن العمل العام واتجاههم للقطاع الخاص او الاغتراب. كما تساهم الاجور المتدنية في تفشي الفساد بسبب عدم كفاية الاجور.
اما النتيجة الاخيرة لترهل الخدمة المدنية فتكمن في ضعف الانتاجية بسبب انخفاض الدافعية والتدريب، كما تشيع الاتكالية بسبب تداخل المهام التي يقوم بها العاملون بسبب كثرة عددهم.
من خلال السرد السابق وبتطبيقه لقياس اداء الحكومة الحالية وفرص نجاح قدرتها على احداث التنمية يمكن القول انها على الارجح لن تحقق تنمية تذكر طالما ظلت الخدمة المدنية بوضعها المترهل الحالي ببساطة لان ما تحصله الحكومة من ايرادات سيذهب معظمه للصرف على هذا الجهاز الاداري الضخم المترهل بسبب الترضيات السياسية والجهوية. الجدير بالذكر انه عند الحديث عن هذا الامر ووجوب اعادة هيكلة الخدمة المدنية يكون الرد ان نتيجة اعادة الهيكلة هذه تشريد العاملين ، والواقع ان هذا الرد يتجاهل حقيقة ان هؤلاء العاملون الذين لا يعمل معظمهم كما ينبغي يعيشون على حساب ميزانية تعليم وصحة وامن باقي افراد الشعب .