هب أن أبرار هي بنتك أو فلنقل درية أو أماني، استيقظت أو أيقظتها فجراً مع ذاك الهدوء العجيب، وهب أنك تسكن في منطقة طرفية قريبة من العاصمة خالية من أصوات عوادم السيارات وأبواقها، وبعيدة عن المسؤولين، أو الأصح المسؤولون بعيدون عنها وعن هذه الأجواء والمناطق، وهب أن إحدى الأسماء البريئة أعلاه هي بنتك، نعم بنتك التي اعتدت على أن تيقظها فجر كل يوم جديد وهي تشعل نور عينيها الناعستين حتى تجهر نظرك الموجه نحو جمال وجهها ونضارة بشرتها، وفي تلك اللحظة لا شيء يعكر مزاجها إلا قطع (نومتها) الهادئة للذهاب إلى المدرسة.
وأي مدرسة؟
وهب أن بنتك أبرار أو درية أو حتى أماني محبة للعلم ومولعة بالدراسة وعاشقة للكتب والأقلام، تشبه الفراشة عندما ترتدي الزي المدرسي وتحلق ما بين المطبخ لاستلام الساندوتش (إن وجد) وبين غرفة نومها علها نسيت كراسة أو كتاب، أو هب أنها نسيت تقبيل رأسك أو أحضان والدتها أو مشاغبة أخوتها.
وهب أن بنتك وهي واحدة من الثلاث أعلاه اعتادت على أن لا تستيقظ إلا على ملامسة يدك لجسدها النحيل أو صوتك أو حتى مس رأسها، وقولك تباعاً للمسها (قومي يا درية شان تمشي المدرسة)، ولأن الأطفال يتضجرون فجراً بقطع نومهم عمداً، هب أن درية -أيضاً- تتضجر وأنت أدمنت هذا الضجر الحميد الذي يبدر منها.
وهب أن أماني وهي إحدى الثلاث طفلات أعلاه هي بنتك ولأنك تسكن في منطقة طرفية قريبة من العاصمة وبعيدة عن المسؤولين أو الأصح المسؤولون بعيدون عنها كل البعد، ولأنك قريب من العاصمة، هب أنها أي بنتك أماني تذهب إلى المدرسة برجيلها حيث لا ترحيل هناك، وهب أنك اعتدت على أن تقف معها أمام بوابة بيتك المشيَّد من الطين والقش، تنتظر صديقاتها حواء وفاطمة وملاذ لترافقهن، وأماني تودعك برسم بسمة عريضة على شفاهها وهي تضع حقيبتها على ظهرها ولثقل الكتب تشعرك بأنها غير قادرة على هذا الحمل لكنها سعيدة برؤية صديقاتها، وسعيدة -أيضاً- برؤيتك لأنها .. لأنها..
لأنها كانت تشعر أنه الوداع الأخير، أو المحطة الأخيرة وكذلك النظرة التي رمقتك بها -أيضاً- كانت هي الأخيرة لذلك ابتسمت في وجهك رغم ثقل حمولة الحقيبة على ظهرها اللين، وذهبت ليسقط على رأسها جدران فصل لعين بمدرستها الخاصة (المهملة) من كل الاتجاهات والنواحي وتذهب إلى جنات الخلد مع أبرار ودرية وهن يرددن نشيد العلم وأيديهن الناعمة على قلوبهن الصافية النقية أثناء طابور الصباح، وأنت والدها ودعتها بهذا السيناريو المحزن لا لشيء سوى أن تسكن قريب من العاصمة وبعيد عن المسؤولين أو الأصح المسؤولون بعيدون عنك كل البعد.
إذن طالما انهارت مدرسة الصديق الخاصة و(الخاصة) هذه نضع تحتها ألف خط، على رؤوس الطالبات وهي بمنطقة دار السلام بأمبدة القريبة من العاصمة نتوقع أن تنهار مدارس الدروشاب والكدرو والكلاكلات وشرق النيل وجبل أولياء والباقير والفكي هاشم والصالحة وجميع مدارس الولايات الخاصة والعامة ويموت التلاميذ رجماً بحجارتها وتتناثر دمائهم على طوبها لتكتب تباً لكم يا (مهملين) وترددها أبرار وأماني ودرية في أكفانهن بصوتهن الذي ردَّدن به نشيد العلم في الطابور قبل لحظات من الانهيار الكارثي وبالتأكيد هن يقصدن (المسؤولون البعيدون)، ومن هم المسؤولون غير أولئك الذين ينصِّبون أنفسهم مسؤولون على وزارات تعليمنا العالي والأدنى.
صحيفة الأخبار